وطن الإعلامية – الإثنين 2-12-2024م:
من لطائف الإمتاع والمؤانسة أن الإهتمام والفضول قد يدفعانك لإجراء بعض الاختبارات الطارئة ، التي تهدف إلى البحث عن التباين في انتماءات الفكرية للأفراد دون استئذان . أول أمس حاولت أن أقوم بذلك في محاولة لاكتشاف جمهور منصات التواصل الاجتماعي، فبعثت في حالتي مقطعًا موسيقيًا لفرقة اوربية متخصصة في العزف علي الآلات الموسيقية بمختلف تشكيلاتها بحسب مفهوم “الاناكروسيس” في محاولة للإنصراف قليلا عن أجواء الحرب التي عطلت الحياة وزادت أوجاع الناس وآلامهم . كانت النتيجة مفاجأة ، إذ تفاعل مع المقطع جميع الجمهور الذي ضم ألوان الطيف السياسي والفكري والثقافي من السودانيين المجتمعين على صفحاتي في “واتساب”، “فيسبوك”، “تلجرام”، “ما ستودون”، و”إكس”.
إكتشفت حينها حقيقية ما قاله لنا أستاذ الفلسفة ” خيري السمعان” في الجامعة ، الرجل حدثنا عن ” الفارابي” و” يوهان سيباستيان باخ” و”شوبنهاور” وشرح مفهوم “الجميل” و”الجليل” و”التراساندال”، قال: إن “الإنسان كائن محب للموسيقى” يمكن ذلك أن يعد تعريفًا لتميزه عن بقية الكائنات . على إعتبار أن هناك تعريفات أخرى قد لا تكون جامعة مانعة ، لكن بالتأكيد كان هناك قليل من الشطط المحمود الذي يدفع لأعمال التفكير كعادة دارسي الفلسفة ، الرجل كان محبًا لعلم الجمال، وهو أحد أهم مباحث الفلسفة بجانب مبحثا الحق والخير .
تفاجأت حقيقة بتفاعل الجمهور مع ذلك المقطع الموسيقي الماتع ، الذي استحوذ على إعجاب الحاضرين كما يظهر في المشاهدة ، والذي عبر عن مكنونات النفس البشرية ، كثير من الأحيان الناس يميلون إلى الانعزال أو البحث عن الراحة بعيدًا عن الضجيج وزحمة الحياة و الأحداث . في ذلك يتساوى أصحاب الفكر الديني المتشدد مع أصحاب الفكر الليبرالي المتحرر، وبين ذلك المعتدلون الذين لا انتماء لهم . هكذا تفاعل الجميع مع هذه المعزوفة الممتعة مما جعلني أتأمل ردود الفعل هذه في إعجاب وأطرح سؤالا مهما : هل يمكن أن تكون الموسيقى والفنون مدخلًا تأسيسيًا لوحدة أهل السودان.؟ ، الذين أعياهم الخلاف السياسي وطموحات الأحزاب السلطوية دون تفويض، لدرجة أنهم أشعلوا حربًا أفقدتهم الأمن و السلام؟ كما افقدت البلاد ما كان يميزها من تسامح ووعي سياسي عرفت به بين الشعوب .
ذلك يجعلنا نطرح سؤالا آخر : هل بالإمكان أن تلعب الموسيقى دورا في زمن الحرب لتوحيد السودانيين حول الوطن والقوات المسلحة السودانية وتعزيز فرص السلام وإستعادة الأمن ، كما نعلم في أوقات الحروب والنزاعات غالبًا ما تصبح الموسيقى ملاذًا للفرد والجماعة. إذ تساهم في تخفيف التوترات النفسية، وتخلق مساحة للتلاقي بين الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو السياسية. لذلك في ظل الصراعات التي قد تمزق المجتمعات وتعصف بوحدتها ، تظل الموسيقى لغة مشتركة قادرة على تجاوز الفوارق والانقسامات. فالموسيقى في زمن الحرب لا تقتصر على كونها وسيلة للتسلية أو الهروب ، بل هي أداة قوية للمقاومة والصمود ، تساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية وتوحيد الصفوف تجاه القضايا الوطنية إذا تم توظيفها بصورة سليمة و جيدة وجذابة .
في السودان لعلنا نذكر استخدم الشعراء والفنانون والموسيقيون الأغاني الوطنية في فترات مناهضة أنظمة الحكم المستبدة في اكتوبر 1964 وابريل 1985 لتوحيد الجماهير حول قضية السلام والمقاومة . في تلك الفترة كان الفنان محمد الأمين ومحمد وردي و آخرين من أبرز الذين استخدموا الموسيقى كأداة لمناصرة القضايا الوطنية وقضايا المجتمع في ظل الانقسامات السياسية العميقة في البلاد . كذلك في محيطنا الإقليمي هناك العديد من النماذج التي تظهر كيف لعبت الموسيقى دورًا هامًا في توحيد الشعوب في أوقات الصراع. على سبيل المثال، في الجزائر، كانت الموسيقى جزءً من النضال ضد الاستعمار الفرنسي في الثورة الجزائرية (1954-1962)، حيث قام الشباب بتقديم أغاني ثورية أسهمت في تعزيز الروح الوطنية وتوحيد الشعب الجزائري ضد الاحتلال.
وفي رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، لعبت الموسيقى دورًا محوريًا في مساعدة المجتمع على تجاوز الصراع. أغاني مثل “Twasezereye” و”Ubumwe” كانت جزءًا من عملية إعادة بناء النسيج الاجتماعي في البلاد بعد الفظائع والانتهاكات كانت بمثابة أداة لنشر الوعي وتعزيز المصالحات الإجتماعية بين مختلف الأعراق. في مصر، خلال ثورة 25 يناير 2011، كانت الموسيقى جزءً من الحراك الشعبي ، حيث استخدم المتظاهرون الأغاني الوطنية والموسيقى الشعبية كوسيلة للتعبير عن احتجاجاتهم وتوحيد صفوفهم ، مما ساعد في تحفيز الجماهير وتعزيز الإحساس بالوحدة الوطنية. وكذلك في لبنان وسوريا والعراق، إذاً، يمكن للموسيقى أن تكون بمثابة رافعة وطنية تساهم في توحيد الشعوب وتذكيرهم بما يجمعهم من قيم إنسانية تتجاوز الخلافات والصراعات الحزبية والسياسية .
وتستشرف المستقبل دون قيود. عليه فان وجه الحقيقة يجب أن نراه كما يبدو في هذه المرحلة المهمة والتي تتمثل في التحولات التي نعيشها واقعا حيث تكون الفنون ذات دور كبير في التعبير عن الوجدان الذاتي والجماعي ، حيث يكون التعبير الفني حاملاً للرسالة الجديدة القاصدة التي تدعو لأهمية وحدة الناس بوجه صريح أو غير صريح ، ذلك لأن الفنون تساهم في دفع حركة المجتمع وتعزز التفاعل بين الأفراد ، فتستوعب القيم وكريم المعتقدات التي تمكنت في الوجدان، لأجل تحقيق الاستقرار الفردي والمجتمعي بما يعزز ثقافة السلام ويدعم الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين السودانيين قاطبة .
دمتم بخير وعافية .
الإثنين 2 ديسمبر 2024 م Shglawi55@gmail.com